فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحكماء المتألهون قد حكموا بسريان نور العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها ولولا ذلك ما دار الفلك ولا استناز الحلك فسبحانه من إله قاهر وهو الأول والآخر، وتمام الكلام في هذا المقام على مشرب المتكلمين والفلاسفة يطلب من محله.
وقرأ الحسن {لا} بنقل فتحة الهمزة إلى السين وحذفها.
{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً}.
إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة حقيقة بإظهار خلوها عن خصائص الإلهية التي من جملتها الإنشار وإقامة البرهان القطعي على استحالة تعدد الإله مطلقًا وتفرده سبحانه بالألوهية إلى بطلان اتخاذهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاء لله تعالى شأنه وتبكيتهم بالجائهم إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد وبطلان الإشراك.
وجوز أن يكون هذا انتقالًا لإظهار بطلان الآلهة مطلقًا بعد إظهار بطلان الآلهة الأرضية، والهمزة لانكار الاتخاذ المذكور واستقباحه واستعظامه؛ ومن متعلقه باتخذوا، والمعنى بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهة مع ظهور أنها عارية عن خواص الألوهية بالكلية.
{قُلْ} لهم بطريق التبكيت والقام الحجر {هَاتُواْ برهانكم} على ما تدعونه من جهة العقل الصريح أو النقل الصحيح فإنه لا يصح القول بمثل ذلك من غير دليل عليه، وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الأشعار بأن لهم برهانًا ضرب من التهكم بهم، وقوله تعالى: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى} إنارة لبرهانه وإشارة إلى أنه مما نطقت به الكتب الإلهية قاطبة وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وعظمتهم وذكر الأمم السالفة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضًا برهانكم، وأعيد لفظ {ذُكِرَ} ولم يكتف بعطف الموصول على الموصول المستدعي للانسحاب لأن كون المشخص ذكر من معه ظاهر وكونه ذكر من قبله باعتبار اتحاده بالحقيقة مع الوحي المتضمن ذلك.
وقيل: المراد بالذكر الكتاب أي هذا كتاب أنزل على أمتي وهذا كتاب أنزل على أمم الأنبياء عليهم السلام من الكتب الثلاثة والصحف فراجعوها وانظرفوا هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ففيه تبكيت لهم متضمن لنقيض مدعاهم وقرىء بتنوين ذكر الأول والثاني وجعل مابعده منصوب المحل على المفعولية له لأنه مصدر وأعماله هو الأصل نحو {أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا} [البلد: 14 15].
وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بالتنوين وكسر ميم {مِنْ} فهي على هذا حرف جر ومع مجرورة بها وهي اسم يدل على الصحبة والاجتماع جعلت هنا ظرفًا كقبل وبعد فجاز إدخال من عليها كما جاز إدخالها عليهما لَكِن دخولها عليها نادر، ونص أبو حيان أنها حينئذ بمعنى عند.
وقيل: من داخلة على موصوفها أي عظة من كتاب معي وعظة من كتاب من قبلي، وأبو حاتم ضعف هذه القراءة لما فيها من دخول من على مع ولم ير له وجهًا وعن طلحة أنه قرأ {هذا ذِكْرُ مَّعِىَ وَذِكْرُ قَبْلِى} بتنوين {ذُكِرَ} وإسقاط {مِنْ} وقرأت فرقة {هذا ذِكْرُ مَن} بالإضافة وذكر من قبلي بالتنوين وكسر الميم، وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق} إضراب من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن وانتقال من الأمر بتبكيتهم بمطالعة البرهان إلى بيان أن الاحتجاج عليهم لا ينفع لفقدهم التمييز بين الحق والباطل {فَهُمُ} لأجل ذلك {مُّعْرِضُونَ} مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول لا يرعوون عما هم عليه من الغي والضلال وإن كررت عليهم البينات والحجج أو فهم معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية.
وقرأ الحسن وحميد وابن محيصن {الحق} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق، والجملة معترضة بين السبب والمسبب تأكيدًا للربط بينهما، وجوز الزمخشري أن يكون المنصوب أيضًا على معنى التأكيد كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل، والظاهر أنه منصوب على أنه مفعول به ليعلمون والعلم بمعنى المعرفة. اهـ.

.قال القاسمي:

ثم أشار تعالى إلى تقرير وحدانيته في ألوهيته ونفي الأنداد، إثر تقريره أمر الرسالة- فإن ما سلف من أول السورة كان في تحقيق شأن النبوة بقوله سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرض هُمْ يُنْشِرُونَ} أي: يبعثون الموتى ويخرجونهم من العدم إلى الوجود.
أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى. كلا فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك. فكيف جعلوها لله ندًا، وعبدوها معه؟
قال الزمخشري رحمه الله: فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر، وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ كيف، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى؟ وذلك أنهم كانوا مع إقرارهم لله عزّ وجلّ بأنه خالق السموات والأرض: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى، منكرين للبعث. ويقولون: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يّس: 78]، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثاني القديم. فكيف يدّعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسًا؟.
قلت: الأمر كما ذكرت. ولَكِنهم بادعائهم لها الإلهية، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار. لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور. والإنشار من جملة المقدورات. انتهى.
قال في الانتصاف: فيكون المنكر عليهم صريح الدعوى ولازمها. وهو أبلغ في الإنكار.
ثم قال الزمخشري: وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة. انتهى.
لطيفة:
سر قوله تعالى: {مِن الأرض} هو التحقير، أي: تحقير الأصنام بأنها أرضية سفلية. وجوز إرادة التخصيص. أي: الآلهة التي من جنس الأرض. لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض. وإنما خصص الإنكار بها، لأن ما هو أرضيّ مصنوع بأيديهم كيف يدعي ألوهيته؟ ثم بيّن تعالى بطلان تعدد الآلهة بإقامة البرهان على انتفائه، بل على استحالته، بقوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} أي: يتصرف في السموات والأرض: {آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} أي: غيره: {لَفَسَدَتَا} أي: لبطلتا بما فيهما جميعًا، واختل نظامهما المشاهد، كما قال تعالى في سورة المؤمنون: {وما كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]، قال أبو السعود: وحيث انتفى التالي، علم انتفاء المقدم قطعًا. بيان الملازمة؛ أن الإلهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييرًا وتبديلًا، وإيجادًا وإعدامًا وإحياءً وإماتة. فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها، وهو محال لاستحالة وقوع المعلول المعين بعلل متعددة. وإما بتأثير واحد منها، فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعًا، واعلم أن جعل التالي فسادهما بعد وجودهما، لما أنه اعتبر في المقدم تعداد الآلهة فيهما. وإلا فالبرهان يقضي باستحالة التعدد على الإطلاق فإنه لو تعدد الإله، فإن توافق الكل في المراد، تطاردت عليه القدر، وإن تخالفت تعاوقت. فلا يوجد موجودًا أصلًا. وحيث انتفاء التالي تعين انتفاء المقدم. انتهى.
وتفصيله كما في المقاصد أنه لو وجد إلهان بصفات الألوهية، فإذا أراد أحدهما أمرًا كحركة جسم مثلا، فإما أن يتمكن الآخر من إرادة ضده أوْ لا. وكلاهما محال. أما الأول فلأنه لو فرض تعلق إرادته بذلك الضد، فإما أن يقع مرادهما وهو محال، لاستلزامه اجتماع الضدين. أوْ لا يقع مراد واحد منهما، وهو محال لاستلزامه عجز الإلهين الموصوفين بكمال القدرة على ما هو المفروض، ولاستلزامه ارتفاع الضدين المفروض امتناع خلوّ المحل عنهما، كحركة جسم وسكونه في زمان معين، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر وهو محال. لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، وعجز من فرض قادرًا حيث لم يقع مراده. وهذا البرهان يسمى برهان التمانع. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فإن أريد بالفساد عدم التكوّن، فتقريره أنه لو تعدد الإله لم تتكون السماء والأرض. لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما. والكل باطل. أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة. وأما الآخران فلما مرّ. وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام، فتقريره أنه لو تعدد الإله لكان بينهما التنازع والتغالب. وتميز صنع كلٍّ عن صنع الآخر، بحكم اللزوم العاديّ. فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام، الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد. ويختل الانتظام الذي به بقاء الأنواع. وترتب الآثار. انتهى.
هذا وقد قيل: إن المطلب هنا برهانيّ، والمشار إليه في الآية إقناعيّ. ولا يفيد العلم اليقينيّ فلا يصح الاستدلال بها على هذا المطلب، وممن فصل ذلك التفتازانيّ في شرح العقائد النسفية قادحًا لما أشار إليه نفسه في شرح المقاصد من كون الآية برهانًا، كما ذكرناه عنه. وملخص كلامه أن مجرد التعدد لا يستلزم الفساد بالفعل، لجواز الاتفاق على هذا النظام، أي: بالاشتراك أو بتفويض أحدهما إلى الآخر فلا يستلزم التعددُ التمانعَ بالفعل بل بالإمكان. والإمكان لا يستلزم الوقوع، فيجوز أن لا يقع بينهما ذلك التمانع بل يتفقان على إيجادهما. ورد عليه بأن إمكان التمانع يستلزم التمانع بالفعل في كل مصنوع بطريق إرادة الإيجاد بالاستقلال. وكلما لزم التمانع لم يوجد مصنوع أصلًا. فإنه لو وجد على تقدير التمانع المذكور اللازم للتعدد فإما بمجموع القدرتين، فيلزم عجزهما. أو بكل منهما فيلزم التوارد. أو بأحدهما فيلزم الرجحان من غير مرجح، لاستواء نسبة كل ممكن إلى قدرة كل من الإلهين والكل محال ضرورة، وحاصل الاستدلال أنه لو تعدد الآلهة لم يتكون مصنوع لأن التعدد مستلزم لإمكان التخالف المستلزم للتوارد أو العجز. فظهر أن الآية حجة قطعية لكون الملازمة فيها قطعية. وحقق بعضهم قطعية الملازمة بالعادة القاضية التي لم يوجد أخرمها قط في ملكين مقتدرين في مدينة واحدة، أن يطلب كلٌّ الانفرادَ بالملك والعلو على الآخر وقهره، فكيف بالإلهين والإله يوصف بأقصى غايات التكبر، فكيف لا يطلب الانفراد بالملك كما أخبر سبحانه بقوله: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}؟ وهذا إذا تؤمل لا تكاد النفس تخطر نقيضه بالبال، فضلًا عن إخطار فرضه، مع الجزم بأن الواقع هو الآخر. فعلى هذا التقدير، فالملازمة علم قطعيّ. هذا ملخص ما جاء في رد مقالة السعد في الحواشي. وقد شنع عليه في مقالته المتقدمة غير واحد. وبالغ معاصره عبد اللطي الكرمانيّ في الانتقاد.
قال المرجانيّ: وقد سبقه في هذا أبو المعين النسفيّ في كتابه التبصرة وتابعه صاحب الكشف حيث شنع على أبي هاشم الجبائيّ تشنيعًا بليغًا. حتى نسبه إلى الكفر بقدحه في دلالة الآية قطعًا على هذا المدعي، ولا يخفى أن الأفهام لا تقف عند حد. ولا تزال تتباين وتتخالف ما اختلفت الصور والألوان، ولا تكفير ولا تضليل، ما دام المرء على سواء السبيل.
وقد أوضح بيان هذه الملازمة مفتي مصر في رسالة التوحيد إيضاحًا ما عليه من مزيد، وعبارته: ومما يجب له تعالى صفة الوحدة ذاتًا ووصفًا ووجودًا وفعلًا. أما الوحدة الذاتية فقد أثبتناها فيما تقدم بنفي التركيب في ذاته خارجًا وعقلًا. وأما الوحدة في الصفة، أي: أنه لا يساويه في صفاته الثابتة له موجود، فلما بيّنا من أن الصفة تابعة لمرتبة الوجود، وليس في الموجودات ما يساوي واجب الوجود في مرتبة الوجود. فلا يساويه فيما يتبع الوجود من الصفات. وأما الوحدة في الوجود وفي الفعل، ونعني بها التفرد بوجوب الوجود وما يتبعه من إيجاد المكنات، فهي ثابتة، لأنه لو تعدد واجب الوجود لكان لكل من الواجبين تعين يخالف تعين الآخر بالضرورة. وإلا لم يتحصل معنى التعدد. وكلما اختلفت التعينات اختلفت الصفات الثابتة للذوات المتعينة، لأن الصفة إنما تتعين وتنال تحققها الخاص بها، بتعين ما يثبت له بالبداهة. فيختلف العلم الإرادة باختلاف الذوات الواجبة. إذ يكون لكل واحدة منها علم وإرادة يباينان علم الأخرى وإرادتها ويكون لكل واحدة علم وإرادة يلائمان ذاتها وتعينها الخاص بها. هذا التخالف ذاتيّ، لأن علم الواجب وإرادته لا زمان لذاته من ذاته لا لأمر خارج. فلا سبيل إلى التغير والتبدل فيهما كما سبق. وقد قدمنا أن فعل الواجب إنما يصدر عنه على حسب علمه وحكم إرادته، فيكون فعلُ كلٍّ صادرًا على حكم يخالف الآخر مخالفة ذاتية. فلو تعدد الواجبون لتخالفت أفعالهم بتخالف علومهم وإرادتهم. وهو خلاف يستحيل معه الوفاق. وكل واحد بمقتضى وجوب وجوده وما يتبعه من الصفات، له السلطة على الإيجاد في عامة الممكنات. فكل له التصرف في كل منها على حسب علمه وإرادته. ولا مرجح لنفاذ إحدى القدرتين دون الأخرى. فتتضارب أفعالهم حسب التضارب في علومهم وإرادتهم، فيفسد نظام الكون، بل يستحيل أن يكون له نظام، بل يستحيل وجود ممكن من الممكنات. لأن كل ممكن لابد أي: يتعلق به الإيجاد على حسب العلوم والإرادات المختلفة. فيلزم أن يكون للشيء الواحد وجودات متعددة وهو محال فـ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} لَكِن الفساد ممتنع بالبداهة. فهو جل شأنه واحد في ذاته وصفاته لا شريك له في وجوده ولا في أفعاله. انتهى.
وأشار حجة الإسلام الغزاليّ في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد في بحث الوحدة، إلى أن هذه الآية لا أبين منها في برهان التوحيد، وأنه لا مزيد على بيان القرآن. قال الكلنبويّ: الفساد المذكور في هذه الآية إما بمعنى خروج السماء والأرض عن هذا النظام المشاهد من بقاء الأنواع وترتيب الآثار كما هو الظاهر. وإما بمعنى عدم تكونهما في الأصل كما قالوا. ثم إن كل من يخاطب بها يعرف أن منشأ الفساد هو تعدد الإله. فهي بعبارتها تنفي آلهة متعددة غير الواجب تعالى، وبدلالتها تنفي تعدد الآلهة. انتهى.
وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَا يَصِفُونَ} أي: من وجود شرك له فيهما والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالدليل المتقدم. أي: فسبحوه سبحانه اللائق به، ونزهوه عما يفترون. وفيه تعجب ممن يشرك مع المعبود الأعظم البارئ لأعظم المكونات وهو العرش، غيره ممن لا يقدر على شيء البتة.
{لا يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ} أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعلوه وحكمته وعدله ولطفه: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} الضمير للعباد. أي: يسألون عما يفعلون كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92- 93].
قال الزمخشري: إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبًا وإجلالًا، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم، كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم، أولى بأن لا يُسأَل عن أفعاله، مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بحكمة، ولا يجوز عليه خطأ، ثم قال: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي: هم مملوكون مستعبدون خطاءُون. فما أخلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه. انتهى.
قال ابن كثير: وهذه الآية كقوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88].
تنبيه:
قال الإمام الغزاليّ في المضنون به على غير أهله: وأما معنى قول الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (125)، فالسؤال قد يطلق ويراد به الإلزام. يقال: ناظر فلان فلانًا وتوجه عليه سؤاله. وقد يطلق ويراد به الاستخبار، كما يسأل التلميذ أستاذه. والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال بمعنى الإلزام. وهو المعني بقوله: {لا يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ} إذ لا يقال لم قول إلزام. فأما أن لا يستخبر ولا يستفهم، فليس كذلك. وهو المراد بقوله: {لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى}. وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} كرره استعظامًا لكفرهم، وإظهارًا لجهلهم، وانتقالًا إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة، ومع خلوها عن خصائص الإلهية. وتبكيتهم بإقامة البرهان على دعواهم. ولذا قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي: دليلكم على ما تفترون. أما من جهة العقل والنقل، فإنه لا صحة لقول لا برهان له ولا دليل عليه.
قال أبو السعود: وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانًا، ضرب من التهكم بهم. وقوله تعالى: {هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} إنارة لبرهانه، وإشارة إلى أنه مما نطقت له الكتب الإلهية قاطبة، وشهدت به ألسنة الرسل المتقدمة كافة. وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم. أي: هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد، المتضمن للبرهان القاطع العقليّ، ذكر أمتي أي: عظتهم، وذكر الأمم السابقة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضًا برهانكم. انتهى.
ثم أشار تعالى أنه لا ينجع فيهم المحاجّة بتحقيق الحق وإبطال الباطل بقوله سبحانه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي: عن النظر الموصل إلى الهدى. اهـ.